يوسف رجب الرضيع:وداعاً أيها الفارس

كان يوماً للحزن الغامر، استبقت فيه الجريمة الخسيسة والغبية، صلاة العيد، لتضرب مشاعر العرب والمسلمين، بقتل الرئيس الأسير، ثم الشهيد، صدام حسين، ولتفتح العيون على مكامن الحقد، الذي لا يُقابل بغير العزم، على سد آفاق أي مستقبل، أمام الفئة الطائفية الحاقدة، في العراق. ففي غمرة هذا الحزن، لم يساورنا الشك، في أن القتلة، أذناب الغزاة الأمريكيين، سوف يلقون جزاءهم، دون أن يأسف أحد، عليهم، مثلما تشعر اليوم، جماهير الأمم، بالأسف، لقتل صدام حسين. لقد نال الفاعلون، احتقار الناس، سواء كانوا من مؤيدي صدام حسين، أو ممن خالفوه الرأي، في بعض تفصيلات تجربته!

* * *

في يوم الحزن الغامر هذا، جاءنا النبأ الآخر. فقد غيّب الموت، رجلاً من أنبل رجالات فلسطين وأطهرهم. إنه يوسف رجب الرضيعي، أنموذج المناضل ذي المشاوير الطويلة، التي قطعها ببسالة وشرف. ففي هذا الزمن، يؤخذ الموت، كمناسبة للإنصاف، في الوقت الذي يحاول البعض فيه، أخذنا بالجملة، أو يحاول اختزال تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية، وشطب تاريخها، بجملة مستعارة، من النص القاصر والأحادي، الذي يصف الوضعيات الخطأ، في تجربة الثورة، أو في تجربة السلطة. ففي هذا الخضم المجنون، لم يكن البعض المعتوه، ذي المواويل، على استعداد لأن يتقبل فكرة أن الحركة الوطنية، ازدحمت بالأطهار، وبالمناضلين الشرفاء، وبذوي المآثر والمناقب والكفاءات الرفيعة.

وفي هذا الخضم المجنون، لم يُعن أحدٌ، ممن يستلّون أوراقاً من ملفات وزارة المالية الفلسطينية، وينشرونها في المواقع الإلكترونية، أن يعلن للناس، بأن سفيراً لفلسطين، أمضى سنوات في إثيوبيا، وهو يوسف رجب الرضيعي، كان يتلقى موازنة نفقات زهيدة، لكنه، عندما نُقل الى باكستان، ترك في حساب السفارة، الذي هو الحساب الفلسطيني المالي العام 45 ألف دولار إدخرها على قاعدة الإحساس بأن ظروفنا المالية، لا تسمح حتى بصرف كل النفقات البسيطة المقررة. وفي هذا السياق، أصبح من حق يوسف رجب الرضيعي علينا، أن نقدم بعض سيرته، لكي تتعرف الأجيال، على رجل من الحركة الوطنية الفلسطينية.

* * *

شاب تفتحت عيونه، في بيت لاهيا، على حدود مسدودة، بينه وبين سائر فلسطين. كان ألمعياً مثابراً. التحق في سن مبكرة، بحركة القوميين العرب، تجاوباً مع فكرة الأمة، ذات المصير الواحد، والآمال الواحدة، والمعركة الواحدة. أضمر القتال، فالتحق مع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، بالكلية العسكرية في بغداد وتخرج منها ضابطاً. انضم الى الكتيبة 329 صاعقة، في رفح، وشارك من موقعه ذاك، في التصدي لعدوان 1967. بعدئذٍ، بدا وكأن أسلوب قتال الجيوش النظامية، لم يعد يُجدي نفعاً، في ظروف تخلف الجيوش والبُنى والأنظمة السياسية. التحق بكلية حرب الشعب في الصين، وتخرج منها، لينتقل الى العراق، مرة أخرى، فيلتحق بكلية مغاوير، ومنها الى ساحة العمل الفدائي في الأردن. وفي بدايات ذلك العمل الفدائي، التحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان ممن نذروا أنفسهم لتأدية الواجب آنذاك، عندما كان ما يُسمى بـ "العمل الخارجي" ضرورياً لجذب انتباه العالم الى قضية فلسطين. وفق هذه الرؤية، ترأس عملية اختطاف طائرة "العال" الإسرائيلية الى الجزائر. وبعد التجربة الفلسطينية في الأردن، عاد الى الانتظام في سلك الجيش الفلسطيني، فالتحق بكتيبة مصعب بن عُمير، في لبنان، واختاره الرئيس الشهيد ياسر عرفات، بعد ذلك كضابط ارتباط بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية. وبعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان، ظل يوسف رجب فيها، ثم سُجن هناك، ثم أبعد الى تونس، ليعمل في دائرة العلاقات الدولية، التابعة للمنظمة، التي كان يرأسها آنذاك، الرئيس محمود عباس. وخلال عمله في تلك الدائرة، كان ناشطاً في ترتيب زيارات غير مسبوقة للرئيس الشهيد ياسر عرفات، الى عدة أقطار، لا سيما زيارته الأولى الى اليونان، وهبوط طائرته في مطار عسكري. وكان من الناشطين في ترسيخ العلاقات مع ثورات معادية للإمبريالية، كالثورة الساندنستية في نيكاراغوا، التي أطاحت بالديكتاتور العميل سوموزا. وانتقل المناضل يوسف رجب، بعد ذلك، الى العمل الديبلوماسي، سفيراً في الصين، ثم سفيراً مقيماً في إثيوبيا، وفي الوقت نفسه سفير غير مقيم في كينيا والصومال، ثم عمل سفيراً في زيمبابوي!

كان لافتاً في تجربة يوسف رجب، أنه لم يكتف بالتأهيل العسكري. فقد كان لديه دافع المثابرة، والتوافر على التحصيل العلمي، وعلى الثقافة والبحث، في رحاب الحقيقة الفلسطينية. بل إنه لم يكتف، في لبنان، بالحصول على ليسانس الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وإنما حاز كذلك على الماجستير في التاريخ، وكتب وقرأ على درب فلسطين، وأصدر كتاباً عن ثورة العام 1936 فاعتمدت دراسته، في هذا الموضوع، أساساً للمادة المتعلقة بتلك الثورة، في "الموسوعة الفلسطينية" بقسميها (العام والدراسات).

هذا هو بعض ما ينبغي أن يُقال، في يوم رحيل المناضل الوطني يوسف رجب، أحد أنبل أبناء الحركة الوطنية الفلسطينية ورجالاتها. رحم الله الفقيد العزيز، وأسكنه فسيح الجنان، وجعل اللهم، سيرته وسيرة أمثاله، ضمانة لعدم فقدان البوصلة.